إنّ الدعوة لابد لها من (صفوة) تحملها و(أمة) تحميها.. (أمة) تحمل هذا الدين، وتهدي به وتحاول أن تقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [سورة الأعراف: من الآية 181].
يتطلع كثير من الإسلاميين إلى السماء مبتهلين إلى الله تعالى أن يرزقهم قائدًا كصلاح الدين.. ويرى الكثيرون أنّه لا ينقصنا إلاّ القيادة الحكيمة، وأنّ هذه الصحوة الإسلامية التي تملأ الآفاق لا ينقصها إلاّ القائد المتميز فقط!! ولا شك أنّ هذه هي إحدى طرقنا الخاطئة في التفكير والنظر وهي (النظرة الأحادية).. فنحن نتعلق دائمًا بما يمكن أن نسميه (الرجل الوحيد).. رجل أسطورة يغير واقعنا في لحظة ويتحول بنا من مؤخرة القافلة البشرية إلى قيادتها بضربة واحدة من عصاه السحرية؟!!
ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز الرجل الوحيد عن حل مشاكلنا وتغيير واقعنا؟!
إنّ هذا الفهم الخاطئ لدور القائد والأمة في تحمل المسئوليات يضر بالقادة ويضر بالأفراد، فعلى مستوى القادة ينمي فيهم هذا الفهم الفردي في التخطيط ويجعلهم يتصارعون مع كل من يحاول المشاركة في الرأي أو العمل، وفي نفس الوقت فإنّ هؤلاء القادة لا يستطيعون عمل كل شيء بمفردهم فينتهي الأمر إلى الفشل والإحباط.
ثم لنفرض أنّ لديهم إمكانية القيادة بمفردهم إلاّ أنّ هذا النوع من التفكير والعمل يسبب وأد القيادات الوسيطة.
وأمّا على مستوى الأفراد فإنّ هذا الفهم يطمس في عقولهم مفهوم المسئولية الجماعية، ويشيع فيهم روح التواكل على القيادات وحدها.. فإذا دعاها الداعي إلى التضحية أجاب لسان حالها {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة: من الآية 24].
ومهما كانت قسوة الهزيمة أمام عيونها فإنّها تظل تنتظر حدوث المعجزة وظهور القائد المخلِّص!! بل وينفق الأفراد أوقاتهم في الحديث عن هويته وشخصيته؟!.
وغاب عن هؤلاء أنّ صلاح الدين يوسف بن أيوب لم يقم بما قام به بمفرده، ولم ينتصر وحده والنّاس يتواكلون لا يريدون بذل جهد ولا تقديم تضحية، وإنّما كان مع صلاح الدين رجال يعملون ويضحون.. وإذن، فالاعتقاد بأنّ حاجتنا هي فقط لقائد مسلم ملهم أمر وفهم خطر وضار لأسباب كثيرة أولها وأهمها: أنّه يصطدم بالقوانين القرآنية التي تقرر أنّ التغيير إلى الأفضل أو الأسوأ لا يحدث إلاّ إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به (القوم)، (الأفراد) لما بالأنفس من مفاهيم واتجاهات.. قال عز وجل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد: من الآية 11].
فالآية كما نرى تربط التغيير بتغيير ما (بقوم)، (جماعة)، (أمة) وليست فرد واحد.. (أمة بالمصطلح الإسلامي) لكلمة (أمة) وهي الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة، وتتجمع على أصولها وتدين لقيادة قائمة على تلك العقيدة.
وإذن فوجود القائد ليس هو كل القضية وإنّما هو شطر القضية، وشطرها الآخر هو وجود (الأمة)، ولابد من شروط في القيادة وشروط في الأفراد أو (الأمة) والتفاعل بين الجانبين والانسجام بينهما.. فأمر القيادة منوط بتلك (الصفوة) المؤمنة من العلماء المخلصين والقادة القادرين- وهي العناصر ذات الخبرة والوعي الشمولي والتي تتوفر فيها ملامح العمل القيادي- والتي تستطيع العمل في مستوى قيادي أدنى من القيادة الرئيسية حتى لا يكون هناك ثغرات أثناء العمل.. بالإضافة إلى أنّ إعدادهم يهيئهم ويؤهلهم لاستلام القيادة مستقبلًا، وهؤلاء هم الذين يشكلون الحلقات القيادية الوسيطة التي تسد الفجوة بين القاعدة العريضة من الجماهير المسلمة، وبين القيادة وهي التي عبرها تتم عملية (بعث الأمة) بدعوة التوحيد بمفهومه السلفي الواضح على ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب الأهواء واختلاط العقائد.
وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي ثلاثة عشر عامًا يربي هذه الفئة، ويصنع الرجال، ويدرب القادة لتحمل مسئولية نشر دعوة الحق بعده صلى الله عليه وسلم، لقد كان صلى الله عليه وسلم يصنع رجالًا يحملون هذه العقيدة فكرًا وشعورًا وممارسة، ويربي (أمة) تتلقى أمر الله فيغدو لديها فعلًا وتطبيقًا ويتحول إلى وقائع وأحداث، فلابد أن يلتزم الدعاة إلى الله الآن هذه الخطوة...
ولنذكر دائمًا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد من ربّه عز وجل مكث بمكة- كما يروي ابن كثير- يتبع النّاس في منازلهم عكاظ والمجنة، وفي المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربّي وله الجنة».
ولنذكره صلى الله عليه وسلم وهو يهتف بربّه عز وجل يوم بدر «اللّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض».. فهذه حقيقة يجب على الدعاة اليوم أن يقفوا أمامها كثيرًا.
إنّ الدعوة لابد لها من (صفوة) تحملها و(أمة) تحميها.. (أمة) تحمل هذا الدين، وتهدي به وتحاول أن تقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [سورة الأعراف: من الآية 181].
(أمة) قال الله عنها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران: من الآية 110]، (أمة) رعيلها الأول أبو بكر العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام، (أمة) تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع.. الجنسية فيها للعقيدة، والوطن فيها دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن.
وهذه (الأمة) تتواصل حضاريًا مع كل جماعة تعمل من أجل الحق: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» ووجود هذه الجماعة وتلك (الأمة) ضرورة كوجود (القائد) ونصر الله الذي تحرزه هذه (الأمة) لا يتم بثبات فرد بل لابد من ثبات عدد معين، قال تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ} [سورة الأنفال: من الآية 65]، بل إنّ الله عز وجل يخبر أن الفقه بسنن الله في التغيير يؤثر في نتيجة المعركة مع الكافرين.. قال الله تعالى: {وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [سورة الأنفال: من الآية 65].
وهذا يلفت النظر إلى خطورة أن يبقى في الأمة من لا يتمتعون بالوعي والفقه لسنن الله في التغيير.. تلك السنن التي تربط التغيير بتغيير (القوم) و(الأمة) وليس فرد واحد، وإدراك ضرر وجود غير الواعين في الأمة لابد أن يولد لدينا شعورًا بالخطر أن يكون المركب الذي يحمل الحركة الإسلامية يحتوي نماذج من الأفراد لا يعرفون سنن طفو الأجسام على الماء فيسعون بحسن نية لخرق السفينة كما ورد في الحديث.
وإذن فلابد من بعث (الأمة) لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى.. وإنّه لتفكير سديد ذلك الذي يرى أنّ عودة (الأمة المسلمة) إنّما يكون في نفس الظروف والشروط التي ولدت فيها أول مرة، فحين ولدت هذه (الأمة) كان ذلك الميلاد صادرًا عن عقيدة واضحة قوية ولسان يستمد من القرآن وسحره وتأثيره وهذا هو الطريق اليوم.. تصحيح مفهوم العقيدة وتخليصها ممّا شابها من علوم الكلام والإرجاء وتجليتها ناصعة واضحة، ودعوة النّاس إلى أن يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام الأولى وهي: تصديق خبر الرسول جملة وعلى الغيب والتزام شرائعه جملة وعلى الغيب، وبناء عليه وضع قضية الشريعة موضعها الصحيح في أصول الاعتقاد وتجريد مفاهيم الإسلام من التلبس بغيرها من المفاهيم الغريبة عليه.
ثم الانطلاق بهذا المفهوم انطلاقًا جادًا يتربى خلاله الأفراد على الأخلاق الإسلامية ويدرسون الحركة الإسلامية وخط سير الإسلام في التعامل مع كل المعسكرات والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد بشدة، وبخاصة من المعسكرات الصهيونية والصليبية.
فإذا وصل الأفراد إلى ذلك المستوى من الخلق والفهم فقد تكوّن لدينا جيل (الصفوة) الذين على أكتافهم تقع مسئولية تكوين وتربية الدعاة الصادقين الذين عبرهم يتم بعث الأمة وإحيائها من جديد...
وختامًا نؤكد أنّنا لن نستطيع أن ننقذ ذريتنا من الأجيال القادمة من براثن الجاهلية إلاّ بالعمل الشاق وتربية جيل مسلم و(أمة) مسلمة، وعندما نحقق ذلك نكون قد انتصرنا على الجاهلية من حولنا وشرعنا في بناء حياة جديدة، إذ بدأنا عملنا بجهود جماعة و(أمة) وليس جهد فرد واحد (قائد).
منقول عن مجلة البيان عدد 22 صفحة 89.
الكاتب: محمد محمد بدري.
المصدر: مجلة البيان.